![]() |
| (محمد المحفلي) |
كما يبدو تاريخ اليمن الحديث، سلسلة من المنعطفات الكبيرة التي
تقوده من مرحلة إلى أخرى، مصحوباً -في أغلب الأحيان- بصراعات دموية كبيرة، تشكل أغلب
فترات الاستقرار فيه حالة من الحرب المؤجلة، إذ تمثل تلك الأوقات مدة تلقيح وتوليد
لحروب قادمة، بيد أن ملامح تلك الحرب المتولدة في أحشاء اللحظات الهادئة من تاريخ البلد،
أحيانا تكون خفية وتستعصي على التحليل بفعل ما تتلبسه من وجوه مراوغة وتحت قشور تتباين
في سمكها من مرحلة إلى أخرى، فيما تكون في أحيان أخرى أكثر تجليا ووضوحا.
غزا الحوثيون ومعهم من تحالف معهم أجزاء واسعة من اليمن، حتى
وصلوا إلى عدن محاولين السيطرة التامة على اليمن، ويعتقدون بكل تلك التحالفات أنهم
سيضعون أمرا واقعا على اليمن والعالم، محاولين صنع عهدهم الخاص تحت لافتات براقة وعناوين
مراوغة، وإن بدت في أغلبها أنها تتناقض مع السلوك المقام على الأرض، فإن الكثير من
الناس البسطاء الذين أصبحوا وقود هذه الحرب، يرون أن من الأفضل تركهم يأخذون فرصتهم
التاريخية، فقد تواطأ التاريخ معهم في لحظة لن تتكرر فترى هذه الفئة المسحوقة أن من
الأفضل عدم الانجرار لقتالهم حفاظا على ما هو موجود من مكتسبات، وتجربتهم وتسليم زمام
البلد لقيادتهم وحلفائهم، زاعمين أن الواقع هو من سيعمل على ترويضهم أو اقتلاعهم كما
اقتلع الذين سبقوهم.
إن الخطأ الأكبر عند هذا الرأي أنه ينظر في سطح خطابهم الظاهر،
مع أن بذور الحرب لا تكمن في سطح سلوك هذا التحالف الجديد فحسب، بل وأيضا في سطح خطابه،
ولو وضع تحالف الحوثي وصالح في موضع السلطة لستة أشهر فحسب وربما أقل واستفرد هذا التحالف
بالسلطة فإن الحرب الضروس التي ستكون أوغل من حد العظم بين الطرفين ستكون أقوى وأدهى
من كل الحروب السابقة، فتحالفهم قائم في أساسه على الرغبة عند كلا الطرفين على الانفراد
بالسلطة، ولنا أن نراجع خرائط تحالفات اليمن السابقة، وكيف أن تلك التحالفات كانت حاملة
في أحشائها بذور حرب مؤجلة.
ربما يمثل العام 1990م هو عام دخول اليمن بصورته الحالية إلى
العالم الحديث، وقد كان توحد الشطرين في ذلك العام بمثابة أكبر حدث إيجابي عرفه تاريخ
اليمن على مدى قرون. وفي الحقيقة أن الناس جميعهم في تلك اللحظة، رموا كل بؤسهم وحملوا
آمالهم على هذا الحدث النبيل، الذي مثل لهم حلما أصبح على جسد الواقع حقيقة ناصعة،
بيد أن البردوني كان يرى في عمق هذا الحدث، ولم ينساق مع القطيع إلى هذه الفرحة المؤقتة
موقنا بوجود حرب مؤجلة في قلب هذا الفرح الجميل، لقد كتب قصيدته (ربيعية الشتاء) في
وقت كانت الاحتفالات في كل بيت وشارع بمولد اليمن الجديد، وهي قصيدة طويلة يلمس القارئ
من كل أبياتها تشاؤمه من هذا الحدث الغريب الذي يجمع بين الربيع والشتاء، إذ يصرح في
بعض أبياتها بصورة مباشرة عن طبيعة هذا الحدث الذي يحمل الدمار والخراب لليمن إذ يقول
مخاطبا الوحدة، وبتصريح واضح لقادة الحرب التي تأجلت أربعة أعوام (علي صالح وعلي البيض):
يا بنت أم الضمد قولي لنا
أي علي سوف يخصي علي؟
إنه ليس ضد الوحدة كما قد يتوهم البعض ولكنه يرى مسبقا أن هذا
الحدث الجميل، يحمل في طياته حربا ستقضي على مفهوم الوحدة من أساسه، إذ لم تضلله الشعارات
البراقة والملامح الزائفة التي تبين له أن الوحدة أصلا قائمة على رغبة في الإقصاء والانفراد
بالسلطة، وليس على الشراكة.
لقد ظل البردوني متمسكا بفكرته تلك، حتى حصلت حرب 94م بين الشمال
والجنوب، والتي قضت نهائيا على فكرة الوحدة الجميلة بين قلوب اليمنيين، وولدت حقدا
لن ترممه السنوات، وقد صرح بذلك في مقابلته بعد الحرب لإحدى الصحف اللبنانية حين بين
أن الوحدة كانت جزءا من مؤامرة على اليمن، لأنها لم تقم على أسس وطنية وإنما على أسس
فردية ونفعية خالصة، وأسست لحرب قادمة، لم يرها أحد من قبل، في زحام الفرح العارم.
تشكل تحالف 94م بين علي صالح وحزب الإصلاح من أجل إقصاء الحزب
الاشتراكي اليمني، وحين انتصر ذلك التحالف مثل ذلك الانتصار حالة مؤقتة بدت للكثير
من المسحوقين حالة من الهدوء الذي يمكن أن يؤسس لمستقبل جميل، بيد أن الفكرة ذاتها
هي المتحكمة في صنع حركة تاريخ اليمن، فهذا التحالف المشبوه القائم على أسس غير وطنية،
كان مؤسسا لمشكلات قادمة إذ لم يلبث هذا التحالف أكثر من عامين حتى بدت بوادر حرب تلوح
في الأفق كان من نتائجها إقصاء الإصلاح من الحكم، وانفراد المؤتمر بالسلطة بظاهر اللعبة
الديمقراطية (المزورة في أغلبها) وإخراج شركائهم في صنع انتصار 94م.
الآن تواطأ الجميع على دخول مليشيات الحوثي إلى العاصمة اليمنية
ومنها إلى بقية مناطق اليمن، ثم بدا التحالف واضحا وصريحا بين أعداء الأمس، علي صالح
من جهة والحوثي من جهة أخرى، بيد أن التحالف بين الطرفين محكوم بوحدة العدو المشترك،
لكن لكل طرف منهما أجندته الخاصة، التي يريد تطبيقها، وتطبيق سياسته على اليمن ليس
من ضمنها مصلحة الوطن ككل، وإنما انطلاقا من رغبات ذاتية في خدمة الفرد أو الجماعة،
ولأن هذا التحالف قائم على هذه النزعات الفردية الخالصة فإن شبه تطبيع الأوضاع التي
سادت صنعاء بعد دخولهم لمدة لا تزيد عن شهر كانت كفيلة بظهور بوادر الصراع بين الطرفين،
كانت بداياتها في بوابات معسكرات القوات الخاصة التابعة في ولائها لعلي صالح، فحصلت
معارك محدودة بين الطرفين، ولكن تلك المواجهات بدأت بالأفول نتيجة الحرب الشاملة التي
اندلعت بصورة مفاجئة بعد هروب الرئيس المحاصر إلى عدن وخشية المتحالفين من انفراط عقد
السلطة من أيديهم مما جعلهم يوثقون عرى تحالفهم ويؤجلون حرب التصفية ما بينهم حتى وقت
لاحق.
لا يمكن أبدا تجاهل تبييت النية لكل طرف بتصفية الطرف الآخر،
فيرى أنصار صالح بأن القوات التي تدين بالولاء لهم يمكنها أن تعيد الحوثيين كهوف مران،
ويرى الحوثيون أن كل شيء صار بأيديهم وبأن إرادة الله تقف معهم بوصفهم أصحاب الحق الإلهي
الذي لا مرد من تنفيذه.
إذن يبدو تاريخ اليمن سلسلة من المنعطفات الخطيرة الممتلئة بالحروب،
أو بفترات انتظار لحروب مؤجلة، ذلك أن الثقافة المتحكمة بكل ذلك هي ثقافة القبيلة القائمة
على الاستعلاء والرغبة في التفرد وإلغاء الآخر المختلف معه، ولا يمكن للوصول إلى الاستقرار
مالم تكن هناك أبعاد وطنية حقيقية تتحكم بسلوك الأطراف السياسية المتصارعة.

